العقد الاجتماعي لقسد.. خطوة يائسة وبائسة على طريق الانفصال
وضم العقد الجديد المٌعدّل 4 أبواب تضم 134 مادة.
والعقد الاجتماعي بأبسط تعاريفه، مجموعة القواعد والنصوص التي تُنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وفي الأحوال الطبيعية تتوافق الإرادة الحرة لمجموعة من السكان في منطقة واحدة على العيش المشترك ويضعون أسُساً لهذا المجتمع الذي يزمعون على تشكيله لتنظيم علاقة الأفراد فيما بينهم وعلاقة المجتمع بالسلطة التي يَتمّ التوافق على إدارتها لهذا المجتمع..
ومن المفترض أن تكون هذه السلطة كياناً شرعياً يَحتكر العنف والإكراه (وهو الدولة بالمفهوم الحديث) ويَتمّ الاتفاق على الخطوط العريضة لتنظيم تلك العلاقة والتي سَيتمّ إقرار ضابط ومُحدّد لها وهو الدستور والذي يحتوي كل التفاصيل التي أفرزتها المبادئ العامة للعقد الاجتماعي.
ومن الشروط التي تَتَقدّم على كُلّ ذلك التوافق على بناء هوية وطنية جامعة تُعبّر عن شخصية تلك المجموعة البشرية التي رضيت بهذا التعاقد ولم تُكرَه عليه، بحيث وجود الأرض التي تسكنها هذه المجموعة البشرية يَترسّخ تدريجياً واقع الشعب الواحد الذي يُقيم في تلك الأرض وتَحكمه سلطة متوافق عليها (أو منتخبة ديمقراطياً) بحيث تَتَشكّل دولة كاملة السيادة ذات هوية وطنية وأرض وشعب وسلطة وعقد اجتماعي ودستور.
كل تلك العوامل لا تَتوفّر في مشروع ما يُسمّى الإدارة الذاتية التي تُحاول أن تُعطي انطباعاً للخارج أنها سلطة حضارية تلتزم بالمعايير الديمقراطية (حتى في تسمية ميليشياتها متعددة الجنسيات) فليست قسد سوريةً وليست ديمقراطية والجميع يعلم (والكرد قبل العرب) أنها جسم أجنبي أتى من خارج الحدود السورية لتنفيذ أجندات غير وطنية واستفاد من حالة الحرب في سوريا وأصبح قوة أمر واقع لا تملك أيّ شرعية، ولا تَمتّ للأرض والسكان بأيّ صلة، وهي ليست إلا أداة لتنفيذ أجندات من يُحرّكها ويُموّلها ويُشغّلها، وهي حليف لكل أعداء الشعب السوري من نظام الأسد إلى نظام الملالي والاتحاد الروسي.
اعتمد الغرب الاستعماري قديماً على بناء أماكن نفوذ في مناطق حيوية وتُدين بالولاء له فتدخل في الدولة العثمانية كثيراً تحت مُسمّى حماية الأقليات، ووصل إلى قرار نهائي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى السعي لإنشاء دويلة لليهود، بحيث تنتمي لأقلية عالمية وتكون غير محبوبة في محيطها بحيث لا تستطيع العيش بدون الدعم الخارجي ولا تستطيع الاندماج مع محيطها، ونجحت التجربة الإسرائيلية في تحقيق الغاية التي أنشِئت لأجلها.
وعند اندلاع الثورة في سوريا كانت السياسة الأمريكية المُتّبعة إدارة الأزمة وليس حَلّها، ولأنّ إدارة الأزمة من الخلف لا تكفي للتحكّم بمساراتها ومآلاتها.
كانت الإدارة الأمريكية لا تريد إسقاط نظام الأسد بعد أن منحها كل الفرص والمُبرّرات لفعل ذلك، ولا تريد أيضاً انتصار المعارضة، وتَحقّق لها ذلك.
كانت الولايات المتحدة ترى في امتداد حزب العمال الكردستاني التركي في سوريا مشروع لحليف محلي تكتيكي إلى أن تتضح الصورة أكثر.
أتت فرصة ذهبية للولايات المتحدة في عام 2014 عندما بدأ يتمدد تنظيم داعش الإرهابي ويجتاح مناطق شاسعة من سوريا والعراق، وكان من الطبيعي أن تعتمد الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب أن تستعين بحليف عسكري لها في حلف الناتو يملك جيشاً قوياً وله مصلحة في الحرب على هذا التنظيم حيث تَمدّد التنظيم الإرهابي على جزء كبير من الحدود السورية التركية.
والجيش التركي يدعم فصائل المعارضة السورية كقوات غير نظامية محلية وهي أول من تَنبّه لخطر التنظيم الارهابي وحاربته بأسلحتها البسيطة وطردته من مناطق كثيرة….
لكن الخيار الأمريكي (المفاجئ) كان على حزب انفصالي كردي عقائدي يساري شمولي ويملك أيدلوجيا قومية عابرة للحدود ويُصنّف أباه المُؤسس له كحزب إرهابي على اللوائح الأمريكية، ويملك علاقات علنية بنظام الأسد (ومازال لحد الآن مُحتفظ بها) انسحبت قوات الأسد من مناطق شاسعة في الجزيرة السورية وسَلّمها له وأمدّه بما يحتاج من سلاح وموارد، وذلك ليتمكّن نظام الأسد من تجميع قواته وتركيز حربه ضد الثورة السورية، ولإيقاع الشقاق ببن العرب والكرد على أمل اندلاع صراع بينهما لا يخدم في مُحصّلته إلا نظام الأسد، وبالطبع استفاد الأسد من تَغوّل حزب الإتحاد الديمقراطي بفصائله العسكرية المتعددة على قمع المعارضة الكردية السورية والتي انخرطت في الثورة باكراً عبر تصفيتها وتصفية رموزها كاغتيال الشهيد مشعل تمو وغيره، وبالتالي الاستيلاء على القرار الكردي السوري وحرفه عن مطالب الثورة السورية لأجندات انفصالية غير قابلة للتحقيق.
انتهى الهدف الأمريكي المُعلن لتحالفها مع ذلك الحزب والذي أجرت عليه عمليات تجميل بِضمّ مُكوّنات أخرى من المنطقة بعيدة عن مركز القرار والقيادة وإنما لتجميل الوجه القبيح لتلك الميليشيا وأسمتها قوات سوريا الديمقراطية.
في 23 آذار 2019 أعلن التحالف الدولي انتهاء آخر جيوب داعش في الأراضي السورية وتَمّ الإعلان عن الانتصار النهائي عليه وبالتالي تَحقّق الهدف الذي من أجله جرى التحالف معه.
والولايات المتحدة حريصة وبسبب اعتبارات داخلية التزاماً بالقوانين التي وافق عليها الكونغرس بالتدخل العسكري الأمريكي وهي الحرب على الإرهاب فقط دون أيّ أهداف أخرى، وبالتالي عدم الاعتراف السياسي بكل ما أفرزته قسد على الأرض من مُمثلها السياسي المسمى (مسد) والإدارة الذاتية ذراعها المدني وبالتالي نأت الولايات المتحدة بنفسها عن أي ممارسات لقسد على الأرض، ولكن لا يُمكن إنكار عدم رضى الولايات المتحدة الضمني عن كل أفعالها دون تبنيها.
بعد الانتصار على داعش ازدادت شراسة قسد على الارض بالتنكيل بكل المعارضين لها من مكونات المنطقة وأولهم الأخوة الكرد السوريين وتَمّ عرض مشاريع فيدرالية ستكون خطوة نحو الانفصال.
ويُمكن اعتبار تجربة الإدارة الذاتية المدنية على الأرض فشلت فشلاً ذريعاً مع توفر الإمكانات المالية لإنجاحها، حيث لم يجرِ أيّ تطوير للبنية التحتية المتهالكة الموروثة من نظام الأسد، كما أنّ خطوة تغيير المناهج الدراسية لاقت رفضاً قاطعاً من السكان، وازداد الأهالي فقراً مع أنّ أراضيهم تختزن كل الثروات السورية.
ولم يتمّ أيّ اعتراف دولي بأيّ دور سياسي لتلك الميليشيات ومازال (وسيبقى) الاعتراف الدولي بالمعارضة الشرعية لنظام الأسد محصوراً بالهياكل الرسمية المعروفة (الائتلاف وهيئة التفاوض.. إلخ) ولم تُشارك ميليشيات قسد بأي مفاوضات ترعاها الأمم المتحدة أو الدول المعنية بالملف السوري ولا اعتراف بها بكونها أحد أطراف المعارضة السورية.
وحاولت الولايات المتحدة بذل جهود لإنشاء توافق ما (ولو بالحد الأدنى) مع المعارضة الرسمية السورية فلاقت بهذا الطرح رفضاً شعبياً سورياً مُضاف إليه رفض الدولة المؤثرة بالملف السوري وهو الرفض التركي القاطع لذلك المسعى.
من عادة الولايات المتحدة عدم الاحتفاظ بأي احتلال لأيّ دولة بالعالم أو دعم أي حركة تَخدمها عندما تكون الأضرار منها أكثر من المكاسب.
ومنذ أكثر من سنتين وبعد أن أدركت الولايات المتحدة الرفض الشعبي والإقليمي لمشاريع قسد حاولت ببطء وبشكل خجول تغيير جزء من المشهد العام بمحاولة تقليص صلاحيات ونفوذ جماعة قنديل لحساب العرب، فبدأت سلسلة من الاتصالات والإجراءات لتعزيز الدور العربي في المنطقة، وخاصةً بعد الانفراج الحقيقي الذي حصل في العلاقات التركية العربية (مع الإمارات والسعودية ومصر) بحيث لن يَتمّ أي احتضان إقليمي ذو أبعاد عربية لتلك الميليشيات ومشاريعها.
وكبرى الانتفاضات العربية المسلحة ضد قسد القنديلية مازالت مستمرة وبدأت في الخريف الماضي، وكان موقف الولايات المتحدة الأقرب للحياد في المعارك التي جرت دليلاً على عُمق التحول في الموقف الأمريكي، خاصةً بعد ما تمّ تسريبه عن رفض قسد للقتال إلى جانب تحالف تقوده الولايات المتحدة لقتال الميليشيات التابعة لفيلق القدس الإيراني في الشرق السوري لإغلاق الممر البري الإيراني في منطقة البوكمال.
كما أنّ الحاجة الأمريكية لدور تركي فاعل ومساند لها في التحولات الجديدة التي يشهدها الشرق الاوسط يجعلها تُخفّف كثيراً من دعمها لتلك القوات وإشراك مكونات المنطقة الحقيقة من عرب وكرد وغيرهم في القرار وتحجيم نفوذ تلك الميليشيا وذلك لتأمين الاستقرار في المنطقة وتهيئة معارضة حقيقية سورية تكون مقبولة شعبياً للانخراط بأيّ حَلّ سياسي مستقبلي في سوريا سينجم بالتأكيد بعد هذا المخاض الذي يَلفّ المنطقة عموماً والذي سيلقي بظلاله بالتأكيد على المشهد السوري.
لاشكّ أنّ قسد مأزومة فهي خسرت أدنى تفاهم مع نظام الأسد بعد وساطة روسية لسنوات عديدة، والباب موصد أمامها غرباً باتجاه قوى الثورة السورية، ويوجد انحسار للدور الروسي في سوريا كما أنه من المتوقع قريباً انحسار في النفوذ الإيراني أيضاً، ويوجد نقمة شعبية عارمة ضدها في مناطقها تَحوّلت إلى مسلحة في دير الزور، ولا مصلحة للولايات المتحدة بالاحتفاظ بها في ضوء خروجها من مرحلة الحرب على داعش والالتفات لمجابهة خطر داعش الشيعية والتي تُهدّدها في العلن وتقصف قواعدها…أي أبواب للتنفس عربياً مغلقة أمامها في ضوء التقارب مع تركيا، لذلك لم تَجد أمامها إلا فرصة للهروب من مآزقها الداخلية والخارجية بإصدار العقد الاجتماعي الجديد لتأكيد شرعيتها وصرخة ذات سقف عالٍ لاستدراج عروض للتفاوض معها…وخوفاً من التحلل الأمريكي من أعبائها حيث أصبحت مضارها أكثر من منافعها ولم تَعُد سوى قوة حراسة لسجناء داعش في سجن غويران في الحسكة ولحراسة مخيم الهول، وبالتأكيد ستبحث الولايات المتحدة عن حلفاء حقيقيين من كل مكونات المنطقة ينتمون للحاضنة الشعبية وتكون اجندتهم سورية فقط.
عانت سوريا كثيراً بعد تشكيلها بحدودها الحالية وفق اتفاقية سايكس بيكو، ولم تتمكن من إنتاج هوية وطنية جامعة، ووطنية سورية حقيقية لأسباب كثيرة ليس مجال تفصيلها في هذه المادة، لذلك حصلت الشروخ العمودية والأفقية العميقة بعد اندلاع الثورة السورية وضعف قبضة الاستبداد الأسدي الذي أمعن في تخريب البنية الاجتماعية للشعب السوري فخرجت كل التناقضات للعلن وبات بناء هوية سورية جامعة والحفاظ على الحدود الجغرافية لسوريا وإنقاذها من مأساتها هدف لكل السوريين الوطنيين.
ومهمة بناء عقد اجتماعي سوري لا ينفرد به طرف ويُقصي أطرافاً آخرين، وإنما تجلس كل ألوان الطيف السوري على مائدة مستديرة وتتفق على بنود العقد الجديد بعد المخاض السوري العنيف، وبالتأكيد ستضمن دولة المواطنة الحقيقية التعاقدية كلّ الحقوق لكل المواطنين وسيكون التنوع السوري مصدر إثراء للهوية الوطنية التي نَنشدها جميعاً.
يهمنا رأيك حول الموضوع نرجو وضع تعليق برأيك ...