الشهوات والنسيان .. سر الشفافية
منذ عدة سنوات كتبت سلسلة مقالات بعنوان "أصل الداء النسيان" أذكر منها هنا بعض العناصر ذات الصلة بعنوان هذه المقالة.
خلق الله تعالى آدم وعلمه الأسماء كلها وجعل كل ذريته في ظهره ثم أخرجهم ليشهدهم على وحدانيته سبحانه -
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (الأعراف 172)
لقد شهد كل إنسان وهو في عالم الذر على وحدانية الله تعالى وهذه الشهادة هي منبع "الإيمان الفطري" - روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ،
فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ)، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]
هذا الإيمان الفطري بالإضافة إلى العلم الفطري الذي علمه الله تعالى آدم محفوظان في خزانة الذاكرة الفطرية لكل فرد مؤمناً كان أو كافرا.
هذه الذاكرة الفطرية تشع نور التوحيد والعلم على قلب صاحبها وجوارحه لتهديه إلى الحق ولتبعده عن الباطل سواءً في أمور الدين أو الدنيا.
وردت كلمة "الذكر" بمشتقاتها اللغوية في القرآن الكريم أكثر من 260 مرة .. والذكر باللسان هو مجرد طريقة للوصول إلى خزانة الذاكرة الفطرية حيث أصل الإيمان والعلم .. أي أذكر لتتذكر شهادتك أمام الله في عالم الذر - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَاغَافِلِينَ (الأعراف 172)
لا تزال خزانة الذاكرة الفطرية تشع نور التوحيد والعلم مادام الطريق أمامها بلا ستائر تمنع وصول ذلك النور إلى قلب صاحبها وجوارحه .. وإلا أصابهم الكفر والتخبط.
كل ما سبق من معاني ذكرته في سلسلة مقالات لي بعنوان "أصل الداء النسيان" .. أما اليوم فلقد شد إنتباهي قول الله تعالى - يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (يونس 57)
بحثت عن معنى قوله تعالى "لما في الصدور" فإرتاحت نفسي لمن قال إنها "شهوات النفس".
نعم .. شهوات النفس هي التي تحول بين النور المطمور في الذاكرة الفطرية وبين القلب والجوارح .. إنها ستائر النسيان الذي هو أصل الداء .. كل الداء.
فعل ما تشتهيه النفس مما نهى الله عنه أو الإمتناع عن فعل ما أمر الله به .. كل ذلك يقيم ستائر بين الذاكرة من ناحية والقلب والجوارح من ناحية أخرى.
كلما إتبع الإنسان الشهوات المحرمة كلما زادت سماكة ستائر النسيان فيقل نور التوحيد والعلم الواصل للقلب والجوارح فيقل معه الهدى ويزيد التخبط في دروب الفكر والعمل ويقترب الإنسان رويداً رويداً من نسيان ذاته وتاريخه ومستقره -
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر 19)
وصول الإنسان إلى هذه الدرجة من النسيان هو "الختم على القلوب" - خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (البقرة 7)
إحذر من إتباع شهوات النفس المحرمة فهي تقيم ستائر تحول بين نور التوحيد والعلم المطمور في الذاكرة الفطرية وبين القلب والجوارح .. والنتيجة هي التخبط فالنسيان فالختم على القلب فلا يعود يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تعود القلوب على قلبين :
قلب أسود مربدا كالكوز مُجَخِيّاً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، إلا ما أشرب من هواه ، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ) رواه مسلم وأحمد.
أما من لم يتبع الشهوات المحرمة فإن الطريق بين ذاكرته الفطرية بما فيها من نور التوحيد والعلم وبين قلبه وجوارحه .. يظل هذا الطريق خالياً من ستائر النسيان .. وهذه هي الشفافية حيث يرى المؤمن بنور الله المودع في ذاكرته الفطرية -
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله"، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}.
د. يسري الشباسي
١٣ نوفمبر ٢٠٢٢
يهمنا رأيك حول الموضوع نرجو وضع تعليق برأيك ...